تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ

الملك سليمان

ما أن طلبتُ الاسبريسو بالحليب والكريمة البيضاء، حتى اقترحت أن ننهي مشروباتنا ونذهب للمنزل، لكنها بزهق قالت: «أحمد، نحن لا نفعل أي شيء مؤخرًا  إلا السكس.. هل هذا ما تريده لعلاقتنا؟ اليوم أريد أن أتكلم، لماذا لا تصنع شيئًا؟ متى يتغيّر وضعنا هذا».

تنهدتُ وأرجعتُ ظهري لمسند الأريكة البرتقالية، مددتُ يدي لعلبة السجائر، وهيّأتُ نفسي للعتاب، لليأس، للزهق، والزعيق، فأي كلام خارج الفراش لا يأتي من ورائه إلا كل ما سبق. كنا جالسين في مدخل باب الكافيه وقبل أن أخرج سيجارتي، دخل رجل يرتدي جلباب أبيض وعقال، يمشي مُتكئًا على عصا أنيقة. حركته بطيئة، عيون زائغة، وملامح مألوفة في غلظتها. اقترب نحو طاولتنا ونطق كلمات مضطربة بلهجة قحطانية، لم أفهم ما يقول، لكن خمنت فورًا مَنْ يكون.

انتصبتُ وقلت لها: «حان وقت التغيير، يا حُبي». مددتُ يدي ليتّكئ عليها الملك سليمان، وهمستُ في أذنه الكبيرة التي يخرج منها الشعر: «سيدنا رايح على فين؟».

لم يجب على سؤالي، لكن همس بمزيج من كلمات الشكر والبركات.

قالت: «إلى أين أنت ذاهب؟». قلتُ لها: «إنما النصر صبر ساعة، خلينا نشوف أي مصلحة من الملك سلمان».

دعوته للجلوس، لكنه اعتذر وقال إنه يبحث عن قهوة السواقين، مازحته وقلت: «بل هذا كافيه الشباب المحرومين»، ضحكتُ لكنه لم يضحك ولم يدرك الإفيه. خفتُ أن ينتبه الجالسون والعاملون في الكافيه لنا فتطير المصلحة، أخذتُه للخارج صانعًا من البحر طحينة، متمايلًا أمامه شبيك لبيك.. لك ما تريد.

بلا ريب كان هذا هو الملك سليمان، توسم في الخير قال، وأنه غافل الحراس وخرج من مقر الإقامة الملكي، لأن معظم الحرس ما هم إلا جواسيس يعملون لصالح ابنه ولي العهد، فكل ما يريده أن يذهب بشكل سري دون أن يدري أحد من خاصته.

-لكن إلي أين تريد أن تذهب يا مولانا؟

أخرج من جيب جلبابه رزمة ريالات، كبش منها وكرمشها في يدي، تلفتَ حوله وهمس في أذني: «كفر الشيخ، أبغي سيارة توديني كفر الشيخ الحبيبة».

«حبًا وكرامة» قلتُ له، ومشينا من ميدان التحرير حتى طلعت حرب.

كنتُ قد تركتُ سيارتي في أحد الجراجات هناك منذ يومين، وأعطيتُ المفتاح للسايس حتى يغيّر الزيت والفلتر. وقفنا على باب الجراج، شاهدتُ السيارة الفيات الخضراء القديمة، لكن لم ألمح حمادة السايس، سألتُ عنه فقالوا: «إجازة، اطلع السطوح يمكن يكون نايم».

قلتُ للملك سليمان: «انتظرني هنا»، وصعدتُ سلالم عمارة الشرق للتأمين، كان الأسانسير مُعطلًا، توقفتُ في الدور الثالث وأنا أنهج، ثم في الدور الخامس كان العرق يخرج من كل مسام جسدي، كنّا في شهر مايو ودائمًا ما تفائلتُ بالصيف. وصلتُ السطح فوجدتُ طفلة في السابعة تحمل رضيعًا عاري الطيز على كتفها. سألتها: «يا شاطرة فين غرفة حمادة السايس؟».

أشارت للسطح الممتلئ بالحيوانات وغرف الغسيل التى تحولت إلى غرف إيجار مكدسة بالعائلات والشقيانين، قالت: «المتلفت لا يصل، في آخر الردهة أمام بابه سبعة أحجار».

اتبعتُ نصيحتها لكني لم أصل. تلفتُ حولي وسألتُ آخرين صادفتهم فدلوني على الغرفة، لكن حمادة لم يكن فيها. دفعتُ الباب، دخلتُ، فوجدتُ كنبة هي في ذات الوقت سرير، وطبلية عليها صنية فيها ثلاث قلل. عطشانًا رفعت أول واحدة، لكن كانت خالية، ثاني واحدة هززتُها قبل رفعها لشفتي كانت خالية، ثالث واحدة وأصغرهم أمسكتها خالية كذلك.

نزلتُ مسرعًا وقد خفتُ أن يقودني البحث عن حمادة إلى ما يعطلني، خصوصًا مع كل هذه العلامات المتعاقبة للقلل الخالية. بينما أهبط سلالم العمارة، أخرجتُ ريالًا من كبشة الريالات التي كرمشها لي الملك، على الريال صورته كما الهيئة التي تركته عليها في الأسفل على باب الجراج، وإن كانت الهالات السوداء أسفل عينيه أكثر سودًا وامتلاءً بالضَغن والغِلّ.

عدتُ للجراج، فوجدتُ الملك سليمان واقفًا في الظل، متكئًا على عصاه، وقد أرتدى نظارته السوداء ذات الإطار الذهبي. فتحتُ موبايلي وقلتُ أمري لله، طلبت «أوبر» ووضعت الوجهة «كفر الشيخ».

ما أن لمحني الملك سليمان قادمًا حتى صاح معاتبًا: «يا أخي حرام عليك، لابد أكون في كفر الشيخ قبل صلاة المغرب، وإلا ينتبهون عليا ولغيابي، ويضيع كل الترتيب».

رفعتُ السبابة للسماء وقلت: «واللي خلق الخلق وفطر السماء وشق الفول نصين، قبل المغرب نكون راجعين وتكون مخلص مشوارك ولا الجنُّ الأخضر يعرف طريقنا، ثوانٍ والسواق الخصوصي بتاعي يكون هنا بالسيارة».

سألتُه إلي أين سنذهب في كفر الشيخ، قال إنه تزوج من فترة ببنت صغيرة، سحرته من أول لمسة. وصفها لى برقة: «والله النسيم يعدى من بين شعرها، أسمعه يقول آهات».

شغفه بالصبية أفقده اتزانه. قلبه لم يتحمل الهوى ونعيمه في سن المائة وعشرين، تعرّض لوعكة صحية وسافر للعلاج في الخارج حيث أحضروا له قلب شاب طازج، رموا قلبه القديم ووضعوا له قلب شاب صالح للعمل لثمانين عامًا على الأقل. عاد لمملكته فوجد الصبية لم تعد موجودة في القصر. نسى الأمر، وانشغل بمشاكل الحكم، لكنه الآن وقد أحس بدنو الأجل منه للمرة الخامسة فكر أنه في حياته لم يظلم سوى هذه الصبية، فلقد أحبها بصدق ومنحته حبها بكل إخلاص، لكنه رضخ لضغوط ولي العهد ومؤامرات الملكة الأم. والآن يأمَل في طلب الصفح، ومَنْ يدري لعل بئر الحب لا يزال فيه رشفة أخيرة.

ركبنا السيارة، وما أن تحركت وشغل السائق التكييف حتى نام جلالة الملك على نفسه، راقبته متأمّلًا وقد لعبت بي الظنون. تطبيق «أوبر» قال إن المشوار سيكلفني حوالى ألف وثمانمائة جنيه، طلبتُ من السائق أن يتوقف أمام ماكينة صرف آلي في طريقنا، سحبتُ الفلوس ولم يعد في رصيدي إلا خمسمائة جنيه. في طريق عودتي للسيارة أخرجتُ كبشة الريالات وأخذتُ أعدها لأجدها سبعة عشر ريالًا.

«أحييه» خاطبتني نفسي وهي أصلًا من الإسكندرية، «ملك وحينما يعطي يعطي سبعتاشر ريال؟». قلتُ لها: «ما هو ملك برضه هيعرف منين الريال بكام ولا يجيب إيه».

عدتُ للسيارة وكان لا يزال نائمًا، فردت الريال في يدي تأمّلتُ صورته على الريال يبدو فيها أصغر قليلًا وبلا ذقن.

جسد الحقيقة بجواري على الأريكة نائمًا على روحه. تهتز السيارة على المطبات، فيسيل من فمه خيط من اللعاب يلوث ذقنه، استعرتُ منديل كلينيكس من السائق، ومسحتُ اللعاب المُنساب، لكن الذقن خرجت في يدى، اندهشت ولم أعرف كيف اتصرف.

هل أعيد الذقن المستعارة لمكانها؟

هل أتركها؟

هل هذا هو الملك؟

هل الأمر مصلحة أم اشتغالة؟

إلي أين سنذهب في كفر الشيخ؟

هل سيكافئني على خدماتي؟

هل يكون لصًا ويقودنا إلى عصابة تستولي على ما نملك أنا وسائق الأوبر، وتغتصبنا؟

شخرت نفسي السكندريّة من هواجسي هازئة، الفأس وقعت في الرأس. لا داعٍ للقلق والأسئلة، فالمياه ستكذب الغَطّاس، ساعات وسنعلم أي منقلب منقلبين.

DsaKLCkXoAA1FNk.jpg

الشك باليقين -4- سلسلة هزلية غير مكتملة

تعالت أصوات الضجيج من الزنزانة المجاورة؛ آهات مكتومة وآخري مطلقة، وثالثة تحولت لصريخ، سباب، زئير، توسلات، صليل معدنى، صرخات ذكورية ثم صوت ضابط يسب الدين للجميع. حوار غير مفهوم التفاصيل بينه وبين أحدهم لكن على عكس المتوقع يبدو كأنما الضابط هو من يسعى لاحتوائه. ينفتح باب زنزانتنا ويقذفوا بشاب يحمل وجهه وسامة بعيدة. كفه الأيسر مربوط بشاش أبيض ملوث بالدماء وشورت وشبشب فلينى بصباع، أوساخ سوداء متراكمة تحت أظاهر القدمين الطويلة. ذقن نابته. وكف أيمن لوح بالسلام ثم ارتمى جالساً بجوار العجوزين.

عزم عليه العجوز المدخن بسيجارة وبدا كأنه يعرفه حيث خاطبه باسمه وكما سمعته كان “كسح”. انطلق في وصلة من السباب واللعن عن خناقة مع نزيل في الغرفة المجاورة، بينما العجوز الآخر غير منتبهاً لحديثه ومندمج أكثر في قرض أظافر يده بأسنانه. أخرجت سندوتشات عطية وتقاسمتها معهم كمحاولة لكسر الحاجز الجليدى وتوثيق المعرفة بالعيش والملح، سألنى أحدهم عن سبب وجودى هنا فحكيت باختصار بدو متأثرين. حسدنى كسح على النعمة حيث لن تطول إقامتى هنا حتى ينقلونى على السجن، أما هو فله هنا شهر ونصف في “قسم ابن وسخة، ومساجين أوطى من الموس على الأرض”. ثم مشيراً لحقيبة طعامى وملابسي نصحنى أهم وأول نصيحة لأيامى القادمة. “أنت جاى هنا، مش عارف هتخرج امتى، وكلمة لك يا زميل احسبها بالورقة والقلم، متعرفش ظروف اللى برا وإذا جت لك زيارة النهارده، متعرفش امتى ممكن تيجى لك حاجة ثاني.”

نصيحة رمتنى في حيرة التفكير في المستقبل في مجدى بيه وصاحب البار وعطيات التى وإن كان مد حنانها بحر فالجذر يضربه سريعاً. كما عرفتها ما أن تجد الباب مغلق أو الطريق شاقاً حتى تيأس وتلجأ لصرف الهم والغم عن نفسها بتسريحة شعر جديدة ونزهة في سيارى سريعة وقد تتذكر قصة حزينة –في هذه الحالة ستكون أنا- بشجن وثلج مشروبها يذوب وقدمها تهتز مع إيقاع أغنية قديمة.

ما الذي انتظره؟ وهل في الحياة غير ذلك؟

لم أعد ذلك الساذج الذي يثق بالإخلاص الزوجي مثلما خدعت لأول مرة منذ سنين، بالتالي لا يجب أن أعول الكثير على عشيقة وشيطانة كعطيات.

قام كسح متجهاً لزاوية الحمام. انزل الشورت الذي يرتديه، ثم قرفص عارياً وأخذ يحزق بلا مباله، حركت رأسي بعيداً لكنى انتبهت للعجوزان يراقبان بشغف حزق “كسح” ويده اللتى امتدت لمؤخرته تسحب طرف كيس بلاستيكى أسود خرج من صرمه. سحب الكيس كساحر يخرج منديل من قبعة خاوية. اتجه لصنبور الماء وغسل الكيس من قطع الخراء البنية التى علقت به ثم فتحه مخرجاً كيس آخر يحتوى على حبوب حمراء، وقبل أن يخرج حبة حمراء من الكيس انتبه لعيون العجائز التى كانت تدمع جشعاً وشهوة لا دموع، فأخرج حبة واحدة رماها باتجاههم “كل واحد نص”. ثم مد كفه الذي كان في صرمه نحوى قائلاً “تضرب يا زميل”. اعتذرت له بأنى ليس لى في أى نوع من المخدرات، وحينما بان التعجب في عينيه “ملكش في أى حاجة كدا”. خجلاً أجبت بصوت خافت “بيرة فقط”. مط شفتيه ورفع الحباية لفمه قائلاً “والله أنت جيت هنا غلط، حكومة بنت كلب ظالمة”.

* * *

فتحت الحقيبة، أخرجت لفافة وجبة المشويات. بلا اعتبار لنصيحة كسح بسطت الطعام وعزمت عليه هو والزملاء. هجم كسح وتبعه العجوزان بينما دسست يدى إلى قاع الحقيبة مخرجاً الأوراق المجموعة في غلاف بلاستيكى شفاف. تناول العجوز الصامت صباع كفتح، وهو يهمس مرحباً: حمد لله على السلامة زيارة سعيدة.

هل كانت زيارة سعيدة؟ كنت سعيداً لأنها أحضرت الأوراق وسيلة مقاومتى ونجاتى من ظلمات الجُب الذي رميت فيه. لكنى أحسست أنها قد تكون المرة الأخيرة التى أري فيها عطيات على الأقل حتى خروجى من هنا ..إن خرجت في يوماً غير معلوم.

حضرت عطيات الزيارة المسائية لوحدها وبعد أول عشر دقائق لم نجد ما نقوله. في مواقف سابقة صامتة مثل هذه كنت أعد لنا مشروب بارد يحتوى على البراندى أو تجذبنى نحوها وهى تخلع ملابسي عنى. لكن الآن خرجت من صمتها باقتراح متلجلج تلقته من مجدى بيه بأن تسافر معه إلى الساحل لتغيير الجو والخروج من ضغوط الأزمة. ثم أضافت “أحتاج إلى رأيك أولاً، هل اسافر معه؟ لا أريد أن اتركك لوحدك لكنى أشعر بالعجز.” لم أقاوم ظهور شبح الابتسامة على شفتي كانت عطيات عاجزة حتى عن تمثيل العجز أو الحيرة وحتى الحزن وهى تحدثنى. عملياً لا شئ يمكن عمله إلا انتظار تعاقب متسلسله الاجراءات البيروقراطية والقانونية. ربّت على كفها وكان بارداً وأخبرتها “أنا في السجن ولا فائدة ترجى من حبسك لنفسك” غيرت الموضوع وقالت:

-أحضرت لك أوراق روايتك الجديدة التى كنت تكتبها.

وضعت حزمة الأوراق أسفل منى. جلست عليها وتناولت الكباب والكفتة مع كسح ورفيقي السجن. وصدى صوت أغنية قديمة يتردد داخلى “ودع هواك وانسانى”.

ما أن انهينا الطعام وجمعنا البقايا في كيس بلاستيكى حتى فُتح باب الزنزانة ودخل اثنان من العساكر وميمون يحملان رجل مكبل اليدين والساقين في هيئة شنطة. ألقوه على ظهره ولم يفكوا حتى القيود. ساقاه مكبلان ويديه كذلك بقيود حديدية، وكلبش ثالث يغلق طرفه على الحديد الواصل بين الساقين والطرف الآخر على الحديد المقيد للذراعين. مرمياً على أرض الزنزانة عاجزاً عن الوقوف أو الجلوس وكدمات متفرقة في أنحاء جسده. لسانه خارج فمه والزبد يسيل منها مشكلاً بركة لعاب صغيرة على الأرض. بهيمة تفرفر في طلوع الروح.

أغلقوا الباب بينما اطلق كسح وصلة سباب فيمن أحضروا الذبيحة وفي المباحث والحكومة والظلمة والكفرة. انحنى هو والعجوز الصامت على البهيمة التى كانت انسان مقيد في هيئة شنطة. كان واضحاً أنه أتى من السلخانة لدى إدارة المباحث الجنائية لكن في الغالب لم يفلحوا في انتزاع أى شئ منه حيث لا يزال رغم كل العذاب الذي ترك آثاره على جسده غارقاً في غيبوبة داخل عالم آخر نتيجة ابتلاعه لكمية من حبوب المخدرات والصراصير. نثر كسح على وجهة قطرات مياة لكنه هز رأسه دليلاً على حياته وإن كان تائها في عالم آخر بعيد عنا.

لزم كلاً منا مكانه بحذاء جدران الزنزانة، في حين ظل الرجل الشنطة/الحقيبة مقيداً نائماً على جانبه الأيمن في منتصف الغرفة. بحركة غير ملحوظة -أو هكذا أوهمت نفسي- وضعت النقود التى أعطتها لى عطيات في جيب سري بالشنطة القماش التى تحتوى على ملابسي والصابون ومزيل العرق. تبقي الورق في المغلف البلاستيكى الشفاف، أخرجته وتصفحت الأورواق حتى وصلت لآخر صفحة كتبتها. قرأتها فعاودتنى كل تفاصيل العالم الذي وضعت أساسه وجدرانه وأنفاس أرواحه. أعدت الورق إلى المغلف. أثري وأهم ما أملك، لم أعده للحقيبة بل وضعته أسفل الفرشة التى تمددت فوقها مستلقياً. أخرجت كتاب إيزيس وحاولت القراءة لكن اضوء كان شحيحاً فأعدت الكتاب إلى الحقيبة، واستلقيت نائماً.

في سباتى غرقت في حلم كنت أطوف فيه حول منزل أبى فلا أجد الباب للدخول، لكن أشعر بسعادة لأن هذا يعنى أن الأب المتعنت السكير لم يعد له وجود، ثم أتذكر أنه مات منذ زمن بعيد وفجأة تلطمنى موجة من باطن الأرض ترفعنى لأعلى. انتبهت مستيقظاً من الحلم لأجد “كسح” يدق الباب الحديدى براحتى يديه وهو يصرخ “واحد بيموت يا حرس”. أحد العجوزين يشهق بصعوبه وصدره يرتفع للأعلى وظهره يتقوس مصارعاً جبال وهمية ليأخذ نفسه، بينما العجوز الآخر تناول منشفة وصنع منها مروحة ليهوى بها على الآخر. أما الرجل الشنطة فكان جسده ينتفض كأنما تيار كهربائي يعبر من خلاله.

جاوب أحد الحراس نداء كسح “في أيه؟”. فصرخ كسح “عم محمد العجوز مش عارف يأخذ نفسه.. واحد بيموت يا حرس”. أتى الرد ساخراً “وأنا أعمل أيه”.

“تعمل أيه” زعق كسح بالعبارة شاخراً وأخذ يخبط حديد الباب بكلتا يديه وقدميه. لثانية تساءلت وماذا عن الرجل الشنطة. لكن تبدد السؤال تحت حقيقة اكتشاف أن هذا الوضع الهيستيري حيث الموت واللا موت والعقاب ورائحة الروث والعرق وكوابيس النوم وأحلام الصحو هو لمحة من أيامى القادمة.

تجمدت في مكانى عاجزاً عن التفكير في شئ وكسح مستمر في الصراخ والسب والخبط بكف يده على الباب. همد كسح للحظة ثم مد يده لداخل فمه وأخرج شفرة من تجويف حلقه، وصرخ مخاطباً الحرس “هموت لك نفسي يا حرس، هموت نفسي عليك يا ناصر” ثم ضرب شفرة الموس في فخذه الأيسر فانبجس الدم من لحمه وتوالت ضرباته لتفجر الدماء وترسم خريطة للجروح على جسده وهو يضرب رأسه في باب الزنزانة. العجوز الذي كان يقوم بدور محرك المروحة بيده التى تمسك المنشفة توقف عن التهوية وأخذ يشارك كسح الصراخ والخبط على الباب.

أغمضت عينى وتكورت على جسدى متوقعاً الأسوء. لكن عكس ما توقعت استجاب الحرس وهرعوا تحت قيادة المدعو ناصر لفتح الباب. اخرجوا العجوز للخارج بينما قيدو كسح بعدما نزعوا الشفرة من يده. استدعوا سيارة الاسعاف وأخذوا الاثنان خارج الزنزانة وتركونى مع الرجل الشنطة والعجوز الذي كان مروحة. لاحظ الأخير الحيرة على وجهى ولأنه كان يعرف أنها تجربتى الأولى في السجن فلقد تطوع لشرح كل ما حدث بادئاً بوصله مديح لجدعنه ورجولة كسح، فعم محمد نزيه -العجوز الأخر- يعانى من الربو وأزمات تنفس ولأنهم يعرفون ذلك فكثيراً ما يتجاهلون أى شكوى تخصه لأن الأزمات أحياناً تنتهى ما أن يخرج للهواء الطلق أو من تلقاء نفسها. لكن قوات الشرطة في النهاية مسئولة عن المساجين وأجسادهم لهذا قام كسح بما قام به فاتحاً باب المشاكل والدوشة لهم. فالآن يجب على الضابط النبطشي أن يستدعى سيارة إسعاف في كل الأحوال لمعالجة جروح كسح، ولكى يمنحه الممرض تقرير طبي عن تلك الجروح لكى يضعه في محضر إثبات الحالة الذي يجب تحريره، ويجب أن يقوم الضابط ناصر باحتواء كسح حتى لا يقوم الأخير بتوجيه أى اتهامات لضباط القسم حينما يتم عرضه غداً على النيابة.فوتوغرافيا: Alvin Booths

لكن ماذا عن الرجل الشنطة الذي هدأت الآن انتفاضات جسده بينما استمرت آهاته خافتة.

كان هذا شنطة/حقيبة وليس انسان. فهو تابع لقوة جهاز المباحث والأرجح ليس مسجلاً على قوة القسم، بل المباحث في الدور الثانى هى من أحضرته وهؤلاء هم قوة الحقيقة ومن أجل الحقيقة لا نحتاج لأوراق أو تسجيلات إلا في المرحلة الأخيرة ما بعد انتزاع الاعترافات حيث تحضر الأوراق لتوثيق الحقيقة ودفترتها وإحالتها لسلطة القضاء الامبراطوري، وحتى الوصول لهذه المرحلة -إن نال شرف الوصول- فهذا ليس إلا شنطة/حقيبة.

 

الشك باليقين -3 – سلسلة هزلية غير مكتملة

استيقظت على حذاء جلدى متسخ يهزنى. وصوت أجش يقول بتهكم “اصحى أنت فاكر نفسك نايم عند حماتك”. بذلت مجهوداً في السيطرة على انفعالي حتى لا يظهر الامتعاض على وجهى ثم اعتدلت على الفرشة جالساً. كان “منمون” في لباس مدنى، خاطبنى:

-قوم.. زيارة.

أخذنى من الزنزانة إلي قاعة الاستقبال في القسم حيث وجدت عطيات وصديق البار. ما أن رأتنى حتى وقفت وهى تغالب دموعها. عانقتها ثم صافحت صديق البار. أفهمنى أنه استطاع من خلال أحد معارفه ورشوة بسيطة تدبير تلك الزيارة المبكرة في غير مواعد الزيارة الرسمية في القسم والتى تكون في المساء. قال أن المحامى طمأنه. صحيح أن العقوبة هى الحبس التأديبي مدة غير معلومة كما تقتضى قواعد الحبس التأديبي لكن مثلما يعنى هذا أن المدة قد تصل لثلاثين شهر فقد تكون أيضاً ثلاث أسابيع كما ينص الحد الأدنى للعقوبة التأديبية غير المعلومة.

في القانون الامبراطوري الحبس التأديبي يختلف عن الحبس العقابي، فالأخير يكون بسبب جنحة أو جريمة محددة الأركان يستحق المدان عقوبة محددة لها. أما الحبس التأديبي فيكون لخروج الجانى عن روح القانون أو الناموس الامبراطوري أو تقاليد المجتمع أو العرف الدينى وتقرير ذلك متروك لروح القاضي. ولأن الغرض منه تأديب الروح لا عقاب الكينونة أو الجسد على فعل مادى تم ارتكابه فالحبس يكون منزوع الأمل بحيث لا يعرف المدان متى سيخرج ليغرق داخل ذاته ويراجع حياته منتظراً رحمة روح النظام الذي تعدى على روحه وهيبته. لكن المحامى مطمئن فمازال أمامنا درجتين للتقاضي وهو واثق من البراءة أو تخفيف الحكم أو إيقاف تنفيذه في درجات التقاضي القادمة. صحيح أن الاجراءات قد تستغرق أسابيع لكن من يدري ربما تنتهى مدة الحبس قبل حتى أن تبدأ إجراءات الدرجة الثانية من التقاضي.

لاحظت عطيات وجومى وأنا استمع لسرد صديق الحانة. وضعت كفها على يدى وهمست “متقلقش أنا كلمت مجدى بيه، ووعد أنك هتقضي المدة في سجن كويس، كل شئ سيكون على ما يرام، كل شئ سيمر سريعاً” أطبقت على يدها بكفي يديا الاثنين “لا تقلقى أنا بخير”.

أشارت عطيات إلي الحقيبة القابعة أسفل قدميها. قليل من الطعام، غيارات داخلية، كتاب لتزجية الوقت عن “إيزيس وعبادتها” كنت اقرأ فيه وتركته بجوار الفراش، سألتنى عما احتاجه، ولم أهتم إلا بطلب أقلام للكتابة، ووصفت لها مكان الأوراق وأين تجدها وأن تقوم بتصوير نسخة منها وإحضارها إلي. لوت شفتيها المكتزتين لكن لم تعترض ثم تلفتت حولها “وهل سيسمحون بدخولها” سألت. ضغطت على كفها “سنتصرف” جاوبتها.

فتحت الحقيبة وأخرجت لفافة منها “طيب كُل معايا، أنا عملت لك أكتر حاجة بتحبها سندوتشات كبدة ومسقعة”. عزمت على بسندوتش ثم على صديق البار.

بينما نتناول الطعام، دخل ضابط إلي القاعة بصحبة اثنين أصغر سناً منه، نظر نحونا ثم خاطب أحد الضباط بصوت عالى “مين دول، وليه قاعدين هنا؟” التفت الضابط الشاب حوله، فهرول ميمون نحوه وانحنى على أذنه هامساً بينما أكمل الضابط الكبير طريقه نحو غرفة كتب عليها “غرفة الأحراز” تبعه الضابطين الشابيين والميمون، ثم تعالى صوت الضابط الكبير من داخل الغرفة “مفيش الكلام دا، الزيارة في ميعاد الزيارة بس”. توتر صديق البار وبدا كمن يعتذر بلا كلام. خرج الضابط وهو يشعل سيجارته، بينما هرول الميمون نحونا وقد فهم صديق البار فقام واقفاً مستأذناً في الانصراف.

خرج الثلاثة من القاعة؛ صديق البار والميمون وعطيات بصحبتهما تتهادى بجسدها الملفوف في ثوب طويل أخضر ملتصق بجسدها مظهراً حدود ملابسهما الداخلية على كفلها الكبير الرجراج. شمس الظهيرة كانت تغرق الساحة الخارجية للقسم، ويسقط ضوئها عابراً باب قاعة الاستقبال مشكلاً مستطيل كبير المساحة على الأرض وقف فيه الضابط متابعاً خروجهم من باب القسم الخارجي أو للدقة خروج مؤخرة عطيات التى لطالما لفتت الأنظار. هز سيجارته بين أصابعه فسقط رمادها على الأرض، استدار برأسه نحوى “زوجتك؟”

لا مهرب ولا يمكن لمسجون أن يتحاشي سؤال سجانه. أول الدروس كما أن الحقيقة ليس ضرورياً أن تجلب المنفعة. نعيش مع بعض منذ سنوات لكن أبداً لم يكن الزواج بالمطروح، وعطيات لم تكن تجد للأمر داعى وأنا بعد تجربتى الوحيدة المشؤمة لم أجد في الأمر أى إغراء لتكراره. مع هذا أجبت الضابط على سؤال:

-نعم حضرتك.

* * *

اعتمد الجهاز الشرطى في تركيبة قبل العصر الامبراطوري على ثلاث فئات رئيسية، الضباط برتبهم الجمهورية المختلفة ويتخرجون من كلية الشرطة بعد دراسة لمدة أربعة أعوام، ثم أمناء الشرطة وهم من الفئات التى لم تكمل تعليمها الثانوى لأسباب مختلفة سواء لضعف قدراتهم العقلية والثقافية أو لظروفهم الاجتماعية أو الاقتصادية حيث يلتحقون بمعهد لإعداد الأمناء لمدة 18 شهر ثم يتم إلحاقهم للعمل كمعاونين للضباط. والفئة الثالثة هم العساكر المجندين الذين يتم اختيارهم من المجندين اجبارياً في الجيش حينما كان التجنيد إجباري في زمن الجمهورية حيث يعملون بدون أجر تقريباً في آخر السلم الوظيفي بجهاز الشرطة.

وحيث أن الأمناء كانوا يقيمون بغالبية العمل تقريباً دون أى تقدير معنوى لجهودهم وبفارق كبير في العائد المادى بينهم وبين الضباط، بل وحتى لم يكن مسموحاً لهم بالعلاج في ذات المستشفيات التى كان يعالج فيها ضباط الشرطة أو حمل السلاح في غير أوقات العمل إلي جانب العشرات من أوجه التمييز والتميز المختلفة، فقد استغل الأمناء فترة السيولة والاضطرابات التى سبقت التحول الامبراطوري، وأخذوا يضغطون من أجل الحصول على الكثير من الامتيازات والمساواة مع الضباط. ومع قيام الامبراطورية وبدأ الاصلاحات الأساسية النظامية تقرر لانهاء هذا التنافس وانعدام السماواة بين الأمناء والضباط حل معهد أمناء الشرطة وتحويل الأمناء لضباط صف. ليقتصر تركيب الجهاز الشرطى على فئتين؛ الضباط والعساكر المجندون.

 العساكر لا يمكن الاعتماد عليهم لأنهم مجندون لفترات زمنية محددة، وغالباً لا يتقنون القراءة والكتابة. والأهم أن الضباط لم يشعروا أنهم ضباط بلا أمناء يصدرون لهم الأوامر ويعتمدون عليهم ويشكلون نافذة تعامل بينهم وبين المدنيين. هنا برز “المنمون” كوسيط مدنى محسوب على السلطة القانونية لا الشرطية.

برزت الحاجة إلي الميمون في كل الجهاز الاداري للامبراطورية لا الشرطي فقط. فكان الحل في افتتاح “الجبلاية الإدارية العليا” وهى معهد بفروع منتشرة على طول وعرض الإمبراطورية. الدراسة فيه لمدة تسع شهور. تحصل بعدها على شهادة معتمدة من إدارة الجبلاية العليا التابعة للمشروع الامبراطوري لتأهيل الشباب. ثم تتقدم لدفع عربون لأى مكتب حكومى يحتاج لميمون، لتحصل على كارنيه “ميمون” معتمد من تلك الوزارة أو الإدارة الحكومية أنك ميمون رسمى تابع لا منتمى لها، وأحياناً تمنع بعض الادارات الحكومية والامبراطوية مع الكارنية طيلسان ترتديه وقت الخدمة حتى يسهل تميزك عن المواطنيين المدنيين والموظفيين الامبراطوريين. بعض الهيئات تمنح “الميامين” التابعين لها زى رسمى وتجبرهم على ارتدائه أو الالتزام بألوان وقواعد تفصيلية ولونية في الملابس. لا يتقاضي الميمون أى أجر رسمي من الهيئة التابع لها فهو ليس موظف وليس لديه مواعيد عمل رسمية، بالتالي فلا يحمل الجهاز الإداري للدولة وميزانيتها أى أعباء إضافية. بل يحصل على أجره بشكل مباشر من المواطنين المتعاملين مع الهيئة.

لنفرض أنك دخلت إلى مكتب إداري ما من مكاتب الإدارة الحكومية الإمبراطورية سواء كانت هيئة عليا أو سفلي  أمنية أو اجتماعية أو خدمية، وذلك لإنجاز معاملة رسمية ما من أى نوع. لنفرض أن هذه المعاملة تطلب منك المرور على ثلاث مكاتب حكومية وإضاعة يوم كامل وربما أكثر من وقتك، هنا يظهر لك الميمون يتقاضى أجره/ إكراميته وينجز لك المعاملة. هكذا قلص ظهور الميمون الوقت الذي تستهلكه البيروقراطية الإدارية، وقضي على الرشاوى والفساد من خلال تقنينه، وكل هذا بدون تحميل الموازنة العامة أعباء مالية إضافية التزاماً بقرارات وشروط صناديق النقد ومعابد الدولار ومؤسسات التمويل والتصنيف الائتمانى الدولية

 

9a5fa0a9a32f970ca10ebf1697de7632
لوحة استشراقية تعود لزمن الاحتلال الفرنسي للجزائر للفنان Horace Vernet

 

هدية الماما

   في سن الرابعة رأيتُ بابا وماما يمارسان الجنس للمرة الأولى. ووقعتُ في حب الاثنين. أدركتُ بالحب كل شيء عن الحياة، الخلق، الهيجان، المتعة، الشبق، لبن الدكر، شهوة الست.

    بالمواظبةِ على التلصصِ، عرفتُ أيضًا عن دم الدورة الشهرية. شاهدتُ أبي واقفًا على الأرض، وأمى على السرير فاشخة ساقيها، مرفوعين في الهواء كسارية سفينة تنزل الأطلسي.

    أبي بظهره الخالي من الشعر ومؤخرته الصغيرة، يتحرك للأمام والخلف، ويده تصفع لحم فخذيها، حتى حانت لحظة أمسكت يد بابا بلحم ماما، ثم خرج من البابا خوار كأنه “آه” يشقها من صدره. أخرج زبه من كُسها، وبينما يستدير نحو الكومودينو ليتناول فوطة يمسح بها زبه، رأيت على أيره آثار دم دورة الماما الشهرية. فتمنيتُ في التو واللحظة أن أصبح امرأة  أقذف الدم والبول من كُسي.

   لم أسأم التلصص على والداي، ولم يبد أن الاثنين يهتمان بمُداراة حبهما ووسائل تعبيرهما عنه. أحبُ ماما وسأظل دائمًا أتمنى لو ورثت عنها بشرتها البيضاء. كنتُ ثمرة قصة حبهما الكلاسيكية. الطالب المصري، الذي سافر للدراسة في ألمانيا الشرقية، ثم عاد بالزوجة الألمانية لحي روض الفرج ليبدأ رحلة صعود طبقي بدعم وحب عائلته. ولتنشئة أطفاله بشكل صحي وحبوب فقد رأى أن وجود الحب وبروزه في العائلة مهمٌ للأطفال، وأبدًا لم يكن الاثنان يخفيان مشاعرهما.

    في سن الخامسة ولدتْ أمي أخي، حينما رأيته بجوارها في الفراش شعرتُ بحب  جارف تجاهه، لا كأخي فقط، بل كأنه ابني. شعرتُ أنه متميز منذ اللحظة الأولى، وتخيلته ابنًا لدم أمي ومَنِيّ أبي، وثمرة ليلة لمحت فيها تحت الضوء الدم يلطخ زب أبي.

    في سن السادسة كانت لدي صورة واضحة عن دورة الحياة وتفاصيلها، ووقعتُ في الحب للمرة الأولى مع أحمد، عمره ضعف عمري. على باب بنايتنا في روض الفرج كنت أنتظره وفي يدي باقة ورود، وحينما لا يعبرني ولا يلتفت، أجري خلفه وأمنحه الورود. يأخذها مني ويبتسم: “شكرا يا أمورة”. ابن الوسخة عاملني كطفلة، وكنتُ أعرف كل شيء وقتها عن عالم الكبار، فصادقتُ أخته، التي كانت في مثل سني. بين غرفتي وغرفتها، بين بيتنا وبيتها، دارت معظم ألعابنا.

    دخلتْ ماما علينا الغرفة وفي يدها جزرتين، منحتني واحدة والأخرى لها. شكرتْ أمي وهي تقضم جزرتها، بينما أمسكتُ جزرتي في يدي اليمنى، ووضعت ابهام يدي اليسرى فوق طرف الجزرة المدبب. تخيلتها قمة هرم. تخيلتها زب بابا. استعدت بحصيلتي اللغوية أسماء كل الأشكال ذات الرأس المدببة، والمستدقة والرأسية. وغبت في غفوة خارج اللحظة.

    خرجت أمي من الغرفة فنظرتُ للصديقة الصغيرة  مبتسمة، رفعتُ طرف تنورتها، وانقلبتْ هي تلقائيًا على بطنها. أتذكر بعض الألعاب، التي طالما لعبناها معًا، والبعض الآخر يحضر لذهني مشوشًا، لكن أتذكر أنها كانت مستمتعة جدًا وكثيرًا ما تغمض عينيها وتعضها على شفتيها أو أي ما يقع في متناول فمها. وسعت بيدي بين أردافها فبان صرم طيزها الوردي، وضعتُ عليه طرف جزرتي المدبب، أخذتُ أبرمه، بينما هي تعض على جزرتها، دفعتُ طرف الجزرة أكثر، وتمنيتُ لو نصل هذه المرة إلى نقطة أعمق، لكن فجأة انفتح باب الغرفة. دخلت أمي تحمل كوبين من العصير، شهقتُ ووقفتُ لثوان متجمدة أمام المشهد. فزعتْ أرنبتي البيضاء من تحت يدي واعتدلت وقد تراجعت لآخر ركن في الغرفة، فسقطت جزرتي من أسفل تنورتها، بينما جزرتها لا تزال في فمها.

    خرجتْ من أمي صرخة واحدة، اتبعتها بأن هرولت خارج الغرفة وغابتْ لثواني. استفاقت الأرنبة  وعدلت ملابسها، ثم انتقلت تهرول نحو منزلها. عادت أمي وهي تمسك بخرطوم بلاستيكي انتزعته من الغسالة، وتتلفظ بفيض من الكلمات الألمانية، ثم هَوّت أول جلدة من الخرطوم على كتفي. كانت هذه المرة الأولى والأخيرة، التي ضربتني فيها بهذه القسوة غير المبررة، وأكاد أجزم أن بسببها ظلت تدللني طوال حياتي معها، وكأنها تكفر عن خطيئتها غير متحضرة.

***

     في سن الرابعة والعشرين كنتُ في حفلة رأس السنة، حينما هجمت عليّ أحدهن، تقريبًا زنقتني في الحيطة وهي تقبل شفتي، وحينما وجدتني مستسلمة أخذتْ تلوكها، بينما يدها تهرس جسدي، أبعدتُ السيدة لا لشيء أكثر من أن رائحة فمها بدت لي مزعجة، ثم ظهر أحمد –غير الذي كان أخًا للأرنبة البيضاء – وقد انتبه لما يحدث، تقدم مني وأبعد السيدة. أخبرته أنني بخير، وأريد كأس جين تونك آخر.

    في الطريق إلي المنزل تذكرتُ للمرة الأولى كل ألعابي مع أرنبتي البيضاء، واستعدتُ المرة الوحيدة، التي انهالت فيها أمي علي جسدي بالخرطوم والضرب حتى أغمى عليّ وأنا صغيرة.

     بدا واضحًا أن ما حدث وما فعلته أمي سبب لي نوعًا من الإعتام الكلي في جزء من الذاكرة. اختفت الأرنبة والجزرة وضرب أمي. وطوال سنوات مراهقتي وشبابي، فكل ما أذكره عن الطفولة هو ابتسامة أبي، وكيف كان يجلب لنا مجلات الموضة الألمانية والأوروبية، ويدعني أنا وأخي نختار الملابس التي تعجبنا صورها، ثم يخرج شريط القياس، ويقيس طولي، محيط الصدر، محيط الوسط، محيط الأرداف، طول وعرض الأكتاف، يكتب ذلك في استمارة صغيرة مُرفقة مع المجلة، ويرسلها مع أرقام الموديلات، التي اخترناها  بالبريد ليصل الطرد وفيه ملابسنا بعد أسابيع.

   “أشيك الملابس وأحلاها كان أبي يختارها لنا، وكانت دائمًا ملابسنا من ألمانيا أو أوروبا“، نطقتُ الجملة بصوت مخدر، وأنا مع أحمد في السيارة، ثم انفجرتُ في نحيب وبكاء متواصل. شعرتُ بحنين جارف لماما، التي لا أعرف عنها شيئًا منذ سن الثامنة عشر.

    مارسنا الجنس نصف سكرانيَن، ثم نام أحمد سريعًا، بينما شعرتُ بحرقان في كُسي. دخلتُ إلي الحمام لأتبول بعد السكس حتى أحافظ على كُسي خالياً من البكتريا والميكروبات. غسلتُ كُسي بالماء وجففته بالمناديل، ثم لفت نظري فرشاة تنظيف المبولة، واقفة ورأسها مغروزًا في قاعدة بلاستيكية خضراء بينما الفرشاة بيضاء ولها يد ذات لون أخضر.

     أمسكتُ الفرشة وأخذتُ أداعب باليد البلاستيكية كُسي، شعرتُ بتهيجي يضرب جسمي كله ويسيطر على رأسي كسحابة سائلة، وبينما أدَعَك كُسي بمقبض الفرشاة استعدتُ ذلك التهيج والشبق والشهوة، التي لم تتحقق أبدًا لطفلة صغيرة قلبها مكسور بسبب أحمد، فتدفعها الغيرة لاكتشاف مذاق صديقتها ومعرفة لون صرم طيزها.

     في اليوم التالي استيقظتُ وفي قلبي شوق جارف لأمي. حادثتُ أخي تلفونيًا وطلبتُ منه أن نتحدث عبر سكايب، سألته عن أخبار خالتي، أخت أمي، فقال إنه لم يحادثها من أسابيع، لكنها أخبرته أنها قد تزوره في هامبورج بعد إجازة الكريسماس.

    “مفيش أخبار عن ماما؟” سألتُه بشكل مباشر.

   -أنت عارفة، أنا بطلت أدور عليها من زمان وأحاول التركيز بس في دراستي وتخليص الماجستير.

***

     في عيد ميلادي الرابع والثلاثين، تصالحتُ كليًا مع توصيف حالتي الشبقية. رسوخ طمأنينة الصداقة، خفوت نار الغرام والحب، وسعار الشبق الدائم.

    استيقظتُ من النوم، فوجدتُ أن أحمد  – وهو أحمد ثالث غير الخمسة أحمد الذين عرفتهم قبل ذلك – قد ربط ساقي ويدي في الفراش، فتحت عيني وبحثتُ في الغرفة فلم أجده، ندهت بصوت بين النوم والاستثارة:

-أحمد؟

     أتى من المطبخ حاملًا منضدة صغيرة ذات لون أخضر، عليها طبق عسل، لبنة بزيت الزيتون، قطع توت بري، وبرتقالة عارية بغير قشرة مُقسمة لنصفين، كل نصف يشكل شبحًا لكُس مُغلق في انتظار تمدد عضلاته. وضع أحمد قوائم المنضدة الأربع على الفراش، وعَدَّل من جلستي واضعًا الوسادة خلف ظهري. كعادته لم يقل حتي صباح الخير، صامتًا لا ينطق حتى بالعبارات الإنشائية من نوع السلام، أو وحشتني، أو إزيك، أو كويسة.

    لهذا تقبلتُ أن يأتي لزيارتي وينام معي لليال طويلة، كان يكره الكلام ويفضل عنه الرقص والموسيقي والجنس. أمسك أحمد نصف البرتقالة بيده، نزع منها الفص الأول وناوله لي في فمي، قطعة قطعة، أخذ يقدمها لي حتى انتهي الفص. غمس إصبعه بالعسل، ثم رفعه ولامس به شفتي، فتحتُ فمي كسمكة فتحة صغيرة تسمح له بإدخال إصبعه فقط، فأدخله لآخره، ومصصتُ إصبعه المُغمس في العسل.

    سحب الإصبع من فمي، وسار به على صدري وبطني حتى سرتي واصلًا لشعر عانتي، لمعت عيونه الزرقاء. أمسك نصف البرتقالة، لامس به شفتي، ثم رفعها في قبضته اليسرى. وبفارق زمني لا يتجاوز الثلاث ثوان حدثت ثلاثة أشياء متتالية، عصَرَ أحمد نصف البرتقالة فسال عصيرها على وجهي وشفتي ورقبتي، غرز إصبعيه عميقًا داخل كُسي، ثم رن جرس الموبايل. لم نلتفت نحن الاثنين إلى رنين الهاتف، سال عصير نصف البرتقالة على أكتافي وصدري ووجهي، وأحمد يحرك أصابعه أسرع فأسرع، ورنين الهاتف أشبه بأمواج تتوالى في اندفاع على صخرة بحرية. أغمضتُ عيني وأنا أشعر بالنشوة تتجمع من أطرافي نحو عقلي، حينما أغمضتُ عيني رأيتُ أشكالا تشبه القراميط وثعابين البحر تلمع وتبرق بألوان متعددة، ورنين الهاتف يدخل أذني، فيتحول لذبذبات تدفع ثعابين البحر الكهربائية في الأوردة، فتسبح أسرع فأسرع، حتى تصل إلى مخي، وتلتهم أعصابي.

    للحظة يتجلى في ظلام عيوني المغلقة صورة وجه أبي، ثم تضرب الرجفة كل جسمي.

     التقطت أنفاسي وأنا أفتح عيوني، أحمد ينظر مستغربًا وعلى غير العادة يُخرج تعليقًا لا داعي له: “بسرعة كدا”، يسحب إصبعيه من كُسي، يمدهما باتجاه فمي لكي أمصهما، لكنني أهز رأسي: “اديني تليفوني الأول”.

   ما أن مَدّ يده لالتقاط التليفون حتى توقف عن الرنين، قربه من عيني فرأيت اسم “بابا”. فك يدي اليمنى،  فأعدتُ الاتصال ببابا، وقبل “ألو” قال:

– مريم وحشتيني..

– ألو..

– أنا بابا يا روحي.

– أه ما انا عارفة، أنت جيت امتى يا بابا؟

– أنا في اسكندرية وراجع تاني، المركب هتتحرك كمان أسبوع.

– طيب مش هتيجي القاهرة اشوفك؟

– أنا بكلمك علشان كدا، أنا عايزك تيجي لي يا مريم، أنا لسه مخلصتش شغل هنا، وعندي حاجات في المحطة، مش هقدر أسيب إسكندرية وأنتِ لازم تيجي علشان تشوفي اللي لقيته.

– لقيت ايه؟

– ما أنتِ اللي لازم تيجي تشوفي وتقولي ليا..

– مالك يا بابا غريب؟

– يا روحي خيط لقيته، بس أنتِ اللي هتعرفي تحددي إذا كان الخيط يخص مامتك ولا لأ.

– ايه يا بابا اللي بتقوله دا؟

– بقول لك ايه، انتِ مش إجازة، بتعملي إيه عندك؟ تعالي ليا اسكندرية افسحك.

– طيب انت فين؟

– أنا في بيت إقامة المهندسين جنب المحطة.

– طيب والشيف علاء عندك ولا مين اللي ماسك المطبخ؟

– هاهاه والله يا روحي لسه ما أكلت ولا أعرف، تعالي انتِ بس وأنا اجيب لك الشيف علاء وأبو علاء.

– طيب أنا هخلص حاجات هنا واجي لك الصبح بدري.

– مريم.

– أيوه يا بابا.

– متتأخريش يا روحي.

***

زخرفة من مخطوط بريطانى مجهول تعود إلي القرن التاسع عشر

    لم يتواجد الشيف علاء ولا أبو علاء. عرفتُ هذا وأنا أعبر البوابة الأمنية لمبنى المحطة. تذكرني حارس الأمن العجوز، وأكد بابتسامة أن الباشمهندس ينتظرني منذ الأمس، سألته وأنا أناوله رخصة السيارة من النافذة: “الشيف علاء موجود“.

ما أن فتح لي الباب حتى واجهته:

–        بتضحك عليا يا حمادة، بتستدرجني وفي النهاية يطلع مفيش لا شيف ولا علاء.

احتضنني وهو يداعب شعري، ثم قال:

–        أنا محضر لك مفاجأة أجمل من الشيف علاء.

مشى باتجاه المطبخ، ومن الثلاجة أخرج علبة بلاستيكية مغلقة بإحكام وقال:

–        أنا محضر لك “الزاور براتن”.

    في قلبي انفجرت ماسورة ذكريات، وشعرتُ بنار هادئة تشتعل في معدتي. فتح أبي العلبة فبانت داخلها قطع اللحم غارقة في الصوص المتجلط حولها بعد ثلاثة أيام في الثلاجة على الأقل.

   الماما كانت تعد “الزاور براتن” في المناسبات الخاصة، وقبلها أحيانًا بما يشبه الأسبوع. حينما كبرتُ بعض الشيء كانت تمنحني مهامًا محددة ودقيقة للمساعدة في الإعداد. في سن الثامنة عشر كانت تطلب مني المرور بالجزار بعد الجامعة واختيار قطع اللحم من الضلع العلوي تحديدًا. وهكذا كنتُ أقود السيارة إلي آخر شارع فيصل، حيث الجزار الذي تتعامل معه أمي، وهو جزار ومربي مواشي في الوقت ذاته. لا تتعامل مع غيره، لأنها تثق في طريقة تربيته للمواشي وذبحها. يمنحني الكيس فيه اللحم ملفوفًا، أقود السيارة إلى شارع جانبي، ثم أنزل منها إلي الزريبة فيأتي أحمد مساعد الجزار يزنقني خلف الباب، وينيك بلا قبلات، ولا كلام، وفي الغالب في دقائق معدودة يقذف، بينما استنشق أنا رائحة الزريبة وأفتح عيني متذكرة كل التفاصيل.

     أعود إلى المنزل أعطي اللحم لماما، ثم أهرول إلي غرفتي للاستمناء. أظل إصَبَعَ في نفسي أحيانًا طوال اليوم. بينما تقشر الماما البصل والجزر وتقطعهما إلي قطع صغيرة في وعاء، يضاف إليه الماء والخل والملح والفلفل والقرنفل وورق الغار. الجميع في وعاء واحد يصطلي على النار حتى يغلي المزيج، ثم يترك ليبرد فتتبدد الرائحة وتنتشر في المنزل كله. تزورني في غرفتي وأنا عارية أشمّ في البنطلون الجينز المعبق برائحة روث البهائم. الماما تغرق اللحم في المرق البارد، تضعه في وعاء محكم، ثم تتركه مغطى في الثلاجة لمدة ثلاثة أيام.

    كان البابا قد أكمل المرحلة الأولى، والآن يستعد للمرحلة الثانية. الماما عند هذه المرحلة وبينما تطلعني على سر الطبخة العائلية تقدم موجز تاريخي لـ “الزاور براتن”. الأكلة الألمانية، والتي تشتهر بها كولونيا، حيث عبر القيصر بالمدينة منذ 2000 عامًا، ولسبب ما فقد غضب من استقبال سكان المدينة، فأمر جنوده برفع الخيام والتحرك بأسرع ما يكون فذهبوا، وقد تركوا اللحم في المرق باردًا، مثلما أخرجه بابا من العلبة.

    أمسك بابا موبايله وضغط زرًا، ففتح شاشة التلفزيون 48 بوصة. أخرج اللحم ووضعه في طبق وحده، وبينما يضاف إليها الملح والفلفل والبهارات قال بابا:

–        أنا كنت بزور صديق قديم، ولقيت عنده نسخة إلكترونية من فيلم أقدم، دا تقريبا كان بعد ست أو سبع شهور من معرفتي بماما.

من الثلاجة أخرج مربع زبدة صغير وضعه في المقلاة، يذوب على نار هادئة. وهو يكمل حديثه:

–        وقتها كنت أنا وماما بنشتغل مع واحد اسمه “فيدار فريتل”، وفي جامعة أوسلو عملنا التجربة دي للمرة الأولى.

     تناول قطعة اللحم بالشوكة ورماها في الطاسة مع الزبدة. وعلى الشاشة ظهر لثوان وجه الماما. كان شعرها ذا لون أصفر زاهٍ، لم أرثه منها، بينما عيونها خضراء تلمع كعيوني. وضعتْ حبات أرز بين لوحيَن زجاجيَن شفافيَن، وقفتْ ماما بجوارها علبة تحتوي على حبات أرز ملونة، وبدأتْ في إلقائها من أعلي فوق كومة الأرز، حبة تليها حبة. أبطأ بابا حركة الفيديو، تناول قطعة اللحم من المرق ووضعها في الزبدة، ثم اتكأ على حافة المطبخ وهو يقول :

–        لاحظي، الحبة الملونة لا تنزلق مباشرة فوق سطح الكومة، وإنما يمكن أن تختلط ببقية الحبات ثم تظهر في مرحلة أخرى.

    بالتصوير البطيء أخذت الشاشة تعرض سقوط حبة الأرز الملونة، والآثار التي تحدثها في الكومة، ببطء وثبات تختلط الحبات الملونة بالحبوب البيضاء، بعضها ينزلق خارج الكومة. وقفتُ مدهوشة أمام الشاشة والتفاعل البطيء بين حبات الأرز. بدأ بابا في إضافة المرقة إلي اللحم ومعها قطع من الجزر والبصل، ثم غطى المزيج بوعاء نحاسي وخرج من المطبخ.

   جلس بجواري على الأريكة لدقائق، نظرتُ إلى عين بابا فشاهدتُ ماء مالحًا يتجمع في زاوية العين، مددتُ يدي وأغلقتُ الشاشة من الريموت، ثم تمددتُ على الأريكة، وضعتُ رأسي في حجر بابا، فتحتُ أزرار بنطلوني، وخلعته، تكومت في وضع جنيني في حجر البابا بينما رائحة الطعام تعبئ المكان.

***

    حلمتُ بأنني كنتُ في حمام السباحة بالنادي، بينما الماما تجلس تحت مظلة تقرأ في مجلة “أصل الحياة“. كنتُ كمن تتعلم السباحة، كأنني طفلة أخذتُ أصيح على ماما حتى تشاهدني وأنا أعوم. قامتْ الماما وأتت نحوي وقد بدأتُ أشعر برعب ممزوج بإثارة لا أعرف مصدرها، فتحتْ ماما المجلة فبانت داخلها مجلة أخرى، رمتْ المجلة في حمام السباحة فنمت في الماء أزبار وأعضاء ذكورية مختونة وغير مختونة، متعددة الأحجام والأطوال. أخذتُ أسبح وسط الأزبار نحو الماما، وحينما وصلتُ لحافة المسبح تغير المشهد. حيث كنتُ مع أحمد وقد وضع شمعة في طيزي وأشعلها، وبينما الشمعة تذوب ببطء، فيسقط الشمع سائلًا على لحمي يحرقه، كان زب حمادة يدخل ويخرج ببطء من كُسي، أغمض عيني ويطوف في ذهني بيت شعر لا أعرفه.

    قمتُ من الحلم وتناولتُ الموبايل، وكتبتُ أول ثلاث كلمات تذكرتهم من القصيدة “لو أن مسافرًا..” وبينما أنتظر ظهور نتائج البحث، نظرتُ حولي فلم أعرف أين أنا، كنتُ على أريكة في غرفة لا أعرفها، ليس بها إلا بابًا واحدًا. ارتديت ملابسي الداخلية وقميصي، كما كنتُ في حجر أبي. أرهفتُ السمع، لكن ما من صوت.

    تقدمتُ نحو الباب وفتحته للخارج، كان ثقيلًا ومقبضه بارد. ما أن فتحته، وجدتُ قاعة متسعة يقف فيها بابا أمام وحدة تحكم. ومن أحد جدران الغرفة يدخل أنبوب ضخم يبلغ قطره حوالي المتر، ثم يمر عبر جهاز معدني مربع، ويخرج من الجهة الأخرى مقتحمًا جدارًا ثانيًا في الغرفة.

  كان هذا هو الكابل بالتأكيد وهذه غرفة التحكم.

    يعمل بابا ككبير الخبراء التقنيين في شركة كابلات المتوسط البحرية وهى الشركة المسئولة عن مَدّ وصيانة ومراقبة الكابلات البحرية، التي تستخدم في الاتصالات، الانترنت، الأرواح، تحويل الأموال، الأسرار العسكرية، المشاعر، الأوامر التنفيذية، قرارات البيع والشراء، المحادثات العاطفية، الصور البورنوغرافية، فيديوهات التعذيب، الابتسامات، بيانات إنتاج حقول النقط والبترول، دراسات الماجستير والدكتوراه الأكاديمية، تطبيقات التجسس ومراقبة مستخدمي الانترنت، الإعلانات التجارية، الإعلانات الخيرية، الزيجات، الطلاق، الفانتازيا، الواقع، الرغبات، الأحزان، وصفات الطعام، وصفات الدواء، الثورات المجهضة، تلك الناجحة، ومفارش السرير، التي بللتها دماء الدورة الشهرية، تلك التي لف فيها جسد الشهيد، وأخرى استلقى عليها القاتل متنعمًا بالحياة في انتظار نعيم الآخرة، مكافأة على إنجازاته في سبيل الله والوطن والأمة والشعب.

   الكابل محايد يوصِّل، يعرِّف، ويعلُم. لكن لا يحكم أو يصادر.

   بابا أشار بيده لي أن أتقدم، قال بصوت خافت: “مريم.. صباح الخير”

    بدأت الكابلات مع التليغراف، وتطورت حتى الألياف الضوئية، وببناء البشر لشبكتهم المادية من الكابلات الممددة تحت المحيطات، اكتمال الاتصال المادي. لكن باحثين منذ الستينات اهتموا بالبحث عن شبكات أخرى موجودة بالفعل. ماما كانت تقول إنها مسيحية ثقافيًا، لكنها ملحدة. بابا كان يبتسم ويقول أنه مسلم، والاثنان أبدًا لم يتجادلا معي في الدين، لكن ماما كانت تقول دائمًا إن هناك شبكة اتصالات غير مرئية نتصل جميعًا بها، وإلا كيف تظهر فجأة ذكرى من الماضي؟ ما هي الشبكة التي تحمل تفاعلات وذبذبات الرغبة والحب كيف تخرج من جسم لجسم آخر؟ وكيف تلتفتُ للخلف فجأة، فتلمح الرجل في طرف الحديقة يراقبك؟ كيف ولماذا تعاود حبة الأرز الملونة الظهور مرة أخرى ولا تدفن تحت الكومة البيضاء؟ آمنت ماما بوجود هذه الشبكة، لكن عملها، والذي اختفت يومًا بسببه، هو كيف يمكن أن نربط بين الشبكة الفيزيقية والشبكة الميتافيزيقية؟

    لذات السبب أتت بنا ماما إلي مصر. تركنا ألمانيا والتعليم والصحة والحرية والاشتراكية، وأتت بنا إلى روض الفرج، فموقع مصر محوري بين كل الشبكات، سواء الكابلات الفيزيقية أو حتى الميتافيزيقية، وعدد المهتمين بمجال الاتصالات ومجال اختصاصهما كانوا معدودين في الثمانينات، لذلك فالفرص التي ستأتي لهم ستكون أفضل وأعلى. عملت هي وبابا في كل مشاريع الاتصالات المصرية المهمة، وحينما اختفت أكمّل بابا، حيث أصبحت له وحدة أبحاثه الخاصة بجوار وحدة تحكم الكابل الرئيسي.

– صباح النور يا بابا.

– أنا لقيت الباب يا مريم، الوصلة بين العالمين والشبكتين. والطريق لماما.

قام من مكانه وهو يتجه نحو باب لغرفة جانبية، أكمل حديثه:

– الحل الوحيد علشان أعرف ماما فين، كان إني أدور عليها في الشبكة الميتافزيقية، العواطف والرغبات والذكريات والفضلات الذهنية الأخرى.. لهذا فوصل الشبكتين، لم يعد منذ غياب الماما طموح علمي فقط، بل وسيلتي لاستعادة السعادة.

   عاد وهو يجرّ سرير طبي كذلك الذي يمكن أن تجده لدى طبيب أمراض النساء، وضعه بجوار جهاز تخرج منه وصلات متعددة، وقف بين السرير والجهاز وخاطبني:

–  منذ حوالي الثلاث سنوات حلمتُ بالحل، الذي قادني إلي ما نحن فيه، رأيتُ فيدار فريتل وماما، خلع الاثنان ملابسهما، وقد كانت ماما في ذات الصورة التي قابلتها عليها أول مرة، لمستُ ماما رأس فريتل، فأخذ يتحول إلى معدن تذوب ملامحه حتى أصبح قضيبًا معدنيًا لامعًا، لمسته ماما ثانية، فذاب لسائل تحت قدمي، انحنت ماما وقبضت على السائل الفضي، وحين فتحت يدها أمام عينى كان السائل يتبخر منها. حوّلت بسبب الحلم خط سير العمل، لخلق أكواد وبروتوكولات يمكن بها تحقيق التواصل بين الشبكتين لا البحث عن وصلة أو سلك بينهما، بل بروتوكول يمكنهما من التواصل بلغة مشتركة وللزائر الانتقال بين الشبكتين بسلاسة.

    انحنى بابا على الجهاز وأخذ يعبثْ في الوصلات والسلوك المختلفة، بعضها تم إيصاله بالسرير، ثم عاد ووقف أمام شاشة متصلة بالجهاز. تقدمتُ بخطوات محسوبة كأنني أمشي على رمال ناعمة وساخنة، وصلتُ للسرير وجلستُ على حافته. أرحتُ ظهري، ثم رفعتُ الساقين على الحامل. أشعل بابا شاشة ما، ثم عاد ووقف أمامي بين ساقيّ المَفروديَن المعلقيَن على السرير، وهو يحمل بيده قضيبًا معدنيًا متصلًا بسلك واحد بالجهاز.

    انحنى بابا عليّ ورأيتُ تجمعًا لدموع في عينيه يقاوم انسايبها، قبلني على جبهتي، ووضع القضيب على صدري فالتقطه بيدي، تراجع للخلف وعاد لشاشته. أمسكتُ القضيب المعدني وأنا أشعر بثقله يزداد في يدي رغم ثبات الحجم، ثم بدأ القضيب يهتز اهتزازات بسيطة راجفة، مشيتُ به على معدتي، داعبتُ به شفتي كُسي، فاهتز أكثر ودغدغني بشكل بعث النشوة في كل جسمي، أدخلتُ رأس القضيب في كُسي، وبدا كل شيء هادئًا كاتصال طبيعي بين جسدى وديلدو. بدأتُ استسلم للراحة المنبعثة منها واستعيد شوقي لأحمد حينما قال بابا :

–        فكري في ماما الآن يا مريم.. ماما فقط.

   فجأة شعرتُ بموجة من البرد تسري في القضيب، كدتُ أن أخرجه، لكنه اندفع لوحده إلى داخل كُسي. ميكانيزم الجهاز قراءة كل التغيرات الكيمائية والبيلوجية، ثم معالجتها وتحليلها وربطها بالحالة الشعورية. وتحليل ذلك لخلق أكواد يمكن أن يستوعب منها الجهاز ما هو غير مرئي وما يسري في الشبكة الميتافيزيقية. عاد الدفء ثانية للقضيب، هذه المرة أبعدتُ يدي عنه، فأخذ يتحرك ببطء وهو يهتز داخل كُسي، ثم تقوس ظهري بفعل ملامسته لنقطة لم أتخيل أبدًا وجودها داخل كُسي، نقطة لا تنتمي لتشريح الأعضاء الجنسية ولا العقد العصبية، بل شيء أيقظ الحلم فصرتُ أجري داخل حقل من الجزر، أقبض على العيدان الخضراء وأقتلعها فيخرج الجزر في يدي، وكتل متعددة الأحجام من طين الأرض ملتصقة بالجزرة البرتقالية.

    أغمضتُ عيني هربًا من فيض الصور والأفكار، الذي شعرتُ به يسرع عقلي، كأنني تحت تأثير “الأكستسي”، لكن حتى وعيني مغمضة تحوّل اللون الأسود إلى اللون البرتقالي، ثم سمعتُ صوت الماما لأول مرة منذ سنوات يناديني باسمى بصيغة التدليل، التي أبدًا لم ينادني بها غيرها، قالت: “مريومي.. مريومي”. من وسط اللون البرتقالي، الذي أسبح فيه تبدى كُس عملاق يسبح في الفضاء البرتقالي، حاولتُ الاقتراب منه، لكن بعد لحظات أدركتُ أن الكُس نجم، وأنني كوكب دري، يوقد من شجرة تدور حوله في مدار بيضاوي، في أجزاء من الدورة أقترب منها وفي أجزاء أبتعد.

    معلقة في الفضاء مربوطة بجاذبية الكُس، لا اتجه إلي إيثاكا، بل أدور حولها في تكرار أبدي لدورة الأفلاك الكونية، وأدركتُ حينها ما رأته الماما، وجهتُ نظري خارج المركز، وبدا اللون البرتقالي ساطعًا يغطى بضوئه على كل شيء، ثم اتضحت نجوم صغيرة تسبح في الفضاء البرتقالي. دققتُ فيها فبدا أن النجوم ما هي إلا حبات أرز ملونة، تغيب في سائل المادة البرتقالية، ثم تظهر مرة أخرى أحيانًا الحبة بذات اللون، وأحيانًا بلون آخر.

تكرر النداء: “مريومي… مريومي..”

    حاولتُ الصراخ “ماما”، لكن الصوت لم يخرج، أو للدقة لم أسمعه، ثم انتبهتُ أنني لا أسمع أي صوت. لكن الكُس أخذ ينقبض وينبسط وأنا أدور حوله في مدار بيضاوي فيتبدى أنهم ثلاثة أكساس متصلين من الظهر، لكن الثلاثة يتحركون كحزمة عضلات واحدة، ثم أخذتُ سوائل وإفرازات بيضاء تخرج من الكُس وتنساب في الفضاء البرتقالي. شكلت ثلاثة أنهار تسير في اتجاهات غير معلومة، ربما تصب في الفردوس في النهاية. جسدي هو الكوكب بالتأكيد، لكنني لست جسدًا.

   ازدادت سرعة انقباض وانبساط الأكساس الثلاثة، وازداد فيضان الأنهار الثلاثة، وبدأ كل نهر منها يأخذ شكلًا منفصلًا. واحد باللبن، وثاني كما العسل، وثالث كما الدم، ثم سمعتُ صرخة عظيمة لم أعرف مصدرها، ورعب بارد لامسني. فجأة ازداد ليصبح فزعًا وخوفًا لم أعرفه، ثم كنتُ أطير بعيدًا عن مداري، وفزعي يزداد حتي شعرتُ بأنه موت قبض الروح. لكن بصيصًا من الذاكرة ذكرني أننا هنا بين الموت والحياة. أكمل تصوري عن جسدي السابح في مداره، بينما رأسي تتقدم نحو الأكساس الثلاثة بعيدًا عن مدارها، تزايدت سرعة اقترابي من الكُس، الذي يخرج منه نهر الدم، حتى دخلت داخله.

   اختفى اللون البرتقالي وحلت بدلًا منه عتمة سوداء. كنتُ داخل رحم ماما، عرفتُ هذا بقلبي، لكن شعرتُ بجسد مبلول بجواري، وحينما مددتُ يدي لألمسه، أدركتُ أنه لم تعد اليد يدًا، بل أصبحت فكرة. وهذا الجسد المبلول بجواري جسدي، أنا جنين يتشكل. وعلمتُ، لا بالكلمات، لكن بالفطرة أن عليّ مهمة الآن، والماما كانتْ هي العتمة السوداء، التي أسبح فيها. مهمتي أن أضع كل الأفكار اللازمة في جسدي. أن أمنحه الوعي والرغبات والخيال ومفاتيح الحزن والاكتئاب. ومن خارج العتمة شعرتُ بيد الماما كإلهة تصيغ الكون وتضع حدود الانفجار الأعظم ومعدلات انكماشه وتمدده. وصوت ماما هامسًا: “هذه هديتي لك مريومي.. حرية الاختيار الكاملة، وولادة جديدة والقدرة على تغيير كل ماضٍ لحياة بلا ندم”.